كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الْجَارَّ فِي إِلَى اللهِ مُتَعَلِّقٌ بِلَفْظِ أَنْصَارِي وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ أَنَّ مَادَّةَ نَصَرَ تُعَدَّى بِإِلَى، ذَلِكَ بِأَنَّ مَجْمُوعَ الْكَلَامِ هُنَا قَدْ أَشْرَبَ الْكَلِمَةَ مَعْنَى اللُّجْأِ وَالِانْضِمَامِ لِأَنَّ النَّصْرَ يَحْصُلُ بِذَلِكَ، وَيَصِحُّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِوَصْفٍ يُفِيدُ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْأُسْلُوبُ كَمَا قَدَّرْنَا فِي بَيَانِ الْعِبَارَةِ، وَهُوَ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ مُحَافَظَةً عَلَى الْقَوَاعِدِ الْمَوْضُوعَةِ.
{رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ } مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِمْ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ إِلَخْ أَيْ صَدَّقْنَا بِمَا أَنْزَلْتَ مِنَ الْإِنْجِيلِ {وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ } عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: ذَكَرَ الِاتِّبَاعَ بَعْدَ الإيمان؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ الصَّحِيحَ يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ، وَالْعِلْمُ الَّذِي لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْعَمَلِ يُشْبِهُ أن يكون مُجْمَلًا وَنَاقِصًا لَا يَقِينًا وَإِيمَانًا، وَكَثِيرًا مَا يَظُنُّ الْإِنْسَانُ أنه عَالِمٌ بِشَيْءٍ حَتَّى إِذَا حَاوَلَ الْعَمَلَ بِهِ لَمْ يُحْسِنْهُ فَيَتَبَيَّنُ لَهُ أنه كَانَ مُخْطِئًا فِي دَعْوَى الْعِلْمِ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْعِلْمَ بِالشَّيْءِ يَظَلُّ مُجْمَلًا مُبْهَمًا فِي النَّفْسِ حَتَّى يَعْمَلَ بِهِ صَاحِبُهُ فَيَكُونُ بِالْعَمَلِ تَفْصِيلِيًّا، فَذِكْرُ الْحَوَارِيِّينَ الْأَتْبَاعِ بَعْدَ الإيمان يُفِيدُ أَنَّ إِيمَانَهُمْ كَانَ فِي مَرْتَبَةِ الْيَقِينِ التَّفْصِيلِيِّ الْحَاكِمِ عَلَى النَّفْسِ الْمُصَرِّفِ لَهَا فِي الْعَمَلِ {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } لِلرَّسُولِ بِتَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ، وَعَلَى قَوْمِهِ بِمَا كَانَ مِنْهُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالْجُحُودِ، فَحَذَفَ مَعْمُولَ الشَّاهِدِينَ لِيَعُمَّ الْمَشْهُودَ لَهُ وَالْمَشْهُودَ عَلَيْهِمْ.
أَوْ يُقَالُ: الشَّاهِدِينَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ أَيْ حَالَةِ الرَّسُولِ مَعَ قَوْمِهِ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ. قَالَ: وَمِنَ الْمَعْرُوفِ فِي الْفِقْهِ أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْحَاكِمِ؛ لِأَنَّ الْفَصْلَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ يَكُونُ بِشَهَادَتِهِمَا، وَلَا تَصِحُّ الشَّهَادَةُ إِلَّا مِنَ الْعَارِفِ بِالْمَشْهُودِ بِهِ مَعْرِفَةً صَحِيحَةً، وَقَدْ كَانَ الْحَوَارِيُّونَ كَذَلِكَ كَمَا عُلِمَ مِنْ إِقْرَارِهِمْ بالإيمان وَالِاتِّبَاعِ.
{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ } أَيْ وَمَكَرَ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ بِهِ، فَحَاوَلُوا قَتْلَهُ وَأَبْطَلَ اللهُ مَكْرَهُمْ فَلَمْ يَنْجَحُوا فِيهِ، وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْمَكْرِ عَلَى طَرِيقِ الْمُشَاكَلَةِ، كَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ، وَأَقَرَّهُمُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ. وَلَكِنْ وَرَدَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ إِضَافَةَ الْمَكْرِ إِلَى اللهِ تعالى مِنْ غَيْرِ مُقَابَلَةٍ بِمَكْرِ النَّاسِ. قَالَ: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [7: 99] وَالْمَكْرُ فِي الْأَصْلِ: التَّدْبِيرُ الْخَفِيُّ الْمُفْضِي بِالْمَمْكُورِ بِهِ إِلَى مَا لَا يَحْتَسِبُ، وَلَمَّا كَانَ الْغَالِبُ أن يكون ذَلِكَ فِي السُّوءِ لِأَنَّ مَنْ يُدَبِّرُ لِلْإِنْسَانِ مَا يَسُرُّهُ وَيَنْفَعُهُ لَا يَكَادُ يَحْتَاجُ إِلَى إِخْفَاءِ تَدْبِيرِهِ، غَلَبَ اسْتِعْمَالُ الْمَكْرِ فِي التَّدْبِيرِ السَّيِّئِ وَإِنْ كَانَ فِي الْمَكْرِ الْحَسَنِ وَالسَّيِّئِ جَمِيعًا قال تعالى: {اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [35: 43] وَوَجْهُ الْحَاجَةِ إِلَى الْمَكْرِ الْحَسَنِ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ إِذَا عَلِمَ بِمَا يُدَبَّرُ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ أَفْسَدَ عَلَى الْفَاعِلِ تَدْبِيرَهُ لِجَهْلِهِ فَيَحْتَاجُ مُرَبِّيهِ أَوْ مُتَوَلِّي شُئُونِهِ إِلَى أَنْ يَحْتَالَ عَلَيْهِ وَيَمْكُرَ بِهِ لِيُوَصِّلَهُ إِلَى مَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَعْرِفَهُ قَبْلَ الْوُصُولِ؛ إِذْ يُوجَدُ فِي الْمَاكِرِينَ الْأَشْرَارِ وَالْأَخْيَارِ {وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } فَإِنَّ تَدْبِيرَهُ الَّذِي يَخْفَى عَلَى عِبَادِهِ إِنَّمَا يَكُونُ لِإِقَامَةِ سُنَنِهِ وَإِتْمَامِ حُكْمِهِ، وَكُلُّهَا خَيْرٌ فِي نَفْسِهَا وَإِنْ قَصَّرَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي الِاسْتِفَادَةِ مِنْهَا بِجَهْلِهِمْ وَسُوءِ اخْتِيَارِهِمْ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ فِي تَفْسِيرِ: {خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَكْرَ فِي نَفْسِهِ شَرٌّ: أَيْ إِنْ كَانَ فِي الْخَيْرِ مَكْرٌ، فَمَكْرُهُ سبحانه وَتعالى مُوَجَّهٌ إِلَى الْخَيْرِ وَمَكْرُهُمْ هُوَ الْمُوَجَّهُ إِلَى الشَّرِّ.
{إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أَيْ مَكْرُ اللهِ بِهِمْ؛ إِذْ قَالَ لِنَبِيِّهِ: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ إِلَخْ، فَإِنَّ هَذِهِ بِشَارَةٌ بِإِنْجَائِهِ مِنْ مَكْرِهِمْ وَجَعْلِ كَيْدِهِمْ فِي نَحْرِهِمْ قَدْ تَحَقَّقَتْ، وَلَمْ يَنَالُوا مِنْهُ مَا كَانُوا يُرِيدُونَ بِالْمَكْرِ وَالْحِيلَةِ، وَالتَّوَفِّي فِي اللُّغَةِ: أَخْذُ الشَّيْءِ وَافِيًا تَامًّا، وَمِنْ ثَمَّ اسْتُعْمِلَ بِمَعْنَى الْإِمَاتَةِ قال تعالى: {اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [39: 42] وَقَالَ: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [32: 11] فَالْمُتَبَادِرُ مِنَ الْآيَةِ: إِنِّي مُمِيتُكَ وَجَاعِلُكَ بَعْدَ الْمَوْتِ فِي مَكَانٍ رَفِيعٍ عِنْدِي، كَمَا قَالَ فِي إِدْرِيسَ عليه السلام: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [19: 57] وَاللهُ تعالى يُضِيفُ إِلَيْهِ مَا يَكُونُ فِيهِ الْأَبْرَارُ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ قَبْلَ الْبَعْثِ وَبَعْدَهُ كَمَا قَالَ فِي الشُّهَدَاءِ: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [3: 169] وَقَالَ: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [54: 54، 55] وَأَمَّا تَطْهِيرُهُ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُوَ: إِنْجَاؤُهُ مِمَّا كَانُوا يَرْمُونَهُ بِهِ أَوْ يَرُومُونَهُ مِنْهُ وَيُرِيدُونَهُ بِهِ مِنَ الشَّرِّ. هَذَا مَا يَفْهَمُهُ الْقَارِئُ الْخَالِي الذِّهْنِ مِنَ الرِّوَايَاتِ وَالْأَقْوَالِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنَ الْعِبَارَةِ وَقَدْ أَيَّدْنَاهُ بِالشَّوَاهِدِ مِنَ الْآيَاتِ، وَلَكِنَّ الْمُفَسِّرِينَ قَدْ حَوَّلُوا الْكَلَامَ عَنْ ظَاهِرِهِ لِيَنْطَبِقَ عَلَى مَا أَعْطَتْهُمُ الرِّوَايَاتُ مِنْ كَوْنِ عِيسَى رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ بِجَسَدِهِ، وَهَاكَ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ:
يَقُولُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ } أَيْ مُنَوِّمُكَ، وَبَعْضُهُمْ: إِنِّي قَابِضُكَ مِنَ الْأَرْضِ بِرُوحِكَ وَجَسَدِكَ {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } بَيَانٌ لِهَذَا التَّوَفِّي، وَبَعْضُهُمْ: إِنِّي أُنَجِّيكَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُعْتَدِينَ، فَلَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ قَتْلِكَ، وَأُمِيتُكَ حَتْفَ أَنْفِكَ ثُمَّ أَرْفَعُكَ إِلَيَّ، وَنُسِبَ هَذَا الْقَوْلُ إِلَى الْجُمْهُورِ وَقَالَ: لِلْعُلَمَاءِ هَاهُنَا طَرِيقَتَانِ إِحْدَاهُمَا- وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ- أنه رُفِعَ حَيًّا بِجِسْمِهِ وَرُوحِهِ، وَأَنَّهُ سَيَنْزِلُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ فَيَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ بِشَرِيعَتِنَا ثُمَّ يَتَوَفَّاهُ اللهُ تعالى.
وَلَهُمْ فِي حَيَاتِهِ الثَّانِيَةِ عَلَى الْأَرْضِ كَلَامٌ طَوِيلٌ مَعْرُوفٌ، وَأَجَابَ هَؤُلَاءِ عَمَّا يُرَدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ مُخَالَفَةِ الْقُرْآنِ فِي تَقْدِيمِ الرَّفْعِ عَلَى التَّوَفِّي بِأَنَّ الْوَاوَ لَا تُفِيدُ تَرْتِيبًا. أَقُولُ: وَفَاتَهُمْ أَنَّ مُخَالَفَةَ التَّرْتِيبِ فِي الذِّكْرِ لِلتَّرْتِيبِ فِي الْوُجُودِ لَا يَأْتِي فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ إِلَّا لِنُكْتَةٍ، وَلَا نُكْتَةَ هُنَا لِتَقْدِيمِ التَّوَفِّي عَلَى الرَّفْعِ؛ إِذِ الرَّفْعُ هُوَ الْأَهَمُّ لِمَا فِيهِ مِنَ الْبِشَارَةِ بِالنَّجَاةِ وَرِفْعَةِ الْمَكَانَةِ.
(قَالَ): وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّ الْآيَةَ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَأَنَّ التَّوَفِّيَ عَلَى مَعْنَاهُ الظَّاهِرِ الْمُتَبَادَرِ وَهُوَ الْإِمَاتَةُ الْعَادِيَّةُ، وَأَنَّ الرَّفْعَ يَكُونُ بَعْدَهُ وَهُوَ رَفْعُ الرُّوحِ، وَلَا بِدَعَ فِي إِطْلَاقِ الْخِطَابِ عَلَى شَخْصٍ وَإِرَادَةِ رُوحِهِ، فَإِنَّ الرُّوحَ هِيَ حَقِيقَةُ الْإِنْسَانِ، وَالْجَسَدُ كَالثَّوْبِ الْمُسْتَعَارِ فَإِنَّهُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وَيَتَغَيَّرُ، وَالْإِنْسَانُ إِنْسَأن لانَّ رُوحَهُ هِيَ هِيَ.
(قَالَ): وَلِصَاحِبِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ فِي حَدِيثِ الرَّفْعِ وَالنُّزُولِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ تَخْرِيجَانِ:
أَحَدُهُمَا: أنه حَدِيثُ آحَادٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَمْرٍ اعْتِقَادِيٍّ لِأَنَّهُ مِنْ أُمُورِ الْغَيْبِ، وَالْأُمُورُ الِاعْتِقَادِيَّةُ لَا يُؤْخَذُ فِيهَا إِلَّا بِالْقَطْعِيِّ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ فِيهَا هُوَ الْيَقِينُ، وَلَيْسَ فِي الْبَابِ حَدِيثٌ مُتَوَاتِرٌ.
وَثَانِيهِمَا: تَأْوِيلُ نُزُولِهِ وَحُكْمِهِ فِي الْأَرْضِ بِغَلَبَةِ رُوحِهِ وَسِرِّ رِسَالَتِهِ عَلَى النَّاسِ، وَهُوَ مَا غَلَبَ فِي تَعْلِيمِهِ مِنَ الأمر بِالرَّحْمَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالسِّلْمِ وَالْأَخْذِ بِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ دُونَ الْوُقُوفِ عِنْدَ ظَوَاهِرِهَا وَالتَّمَسُّكِ بِقُشُورِهَا دُونَ لُبَابِهَا، وَهُوَ حِكْمَتُهَا وَمَا شُرِعَتْ لِأَجْلِهِ؛ فَالْمَسِيحُ عليه السلام لَمْ يَأْتِ لِلْيَهُودِ بِشَرِيعَةٍ جَدِيدَةٍ، وَلَكِنَّهُ جَاءَهُمْ بِمَا يُزَحْزِحُهُمْ عَنِ الْجُمُودِ عَلَى ظَوَاهِرِ أَلْفَاظِ شَرِيعَةِ مُوسَى عليه السلام، وَيُوقِفُهُمْ عَلَى فِقْهِهَا وَالْمُرَادِ مِنْهَا، وَيَأْمُرُهُمْ بِمُرَاعَاتِهِ وَبِمَا يَجْذِبُهُمْ إِلَى عَالَمِ الْأَرْوَاحِ بِتَحَرِّي كَمَالِ الْآدَابِ، أَيْ وَلَمَّا كَانَ أَصْحَابُ الشَّرِيعَةِ الْأَخِيرَةِ قَدْ جَمَدُوا عَلَى ظَوَاهِرِ أَلْفَاظِهَا بَلْ وَأَلْفَاظِ مَنْ كَتَبَ فِيهَا مُعَبِّرًا عَنْ رَأْيِهِ وَفَهْمِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ مُزْهِقًا لِرُوحِهَا ذَاهِبًا بِحِكْمَتِهَا كَأن لابد لَهُمْ مِنْ إِصْلَاحٍ عِيسَوِيٍّ يُبَيِّنُ لَهُمْ أَسْرَارَ الشَّرِيعَةِ وَرُوحَ الدِّينِ وَأَدَبَهُ الْحَقِيقِيَّ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَطْوِيٌّ فِي الْقُرْآنِ الَّذِي حُجِبُوا عَنْهُ بِالتَّقْلِيدِ الَّذِي هُوَ آفَةُ الْحَقِّ وَعَدُوُّ الدِّينِ فِي كُلِّ زَمَانٍ. فَزَمَانُ عِيسَى عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ هُوَ الزَّمَانُ الَّذِي يَأْخُذُ النَّاسُ فِيهِ بِرُوحِ الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ الإسلاميَّةِ لِإِصْلَاحِ السَّرَائِرِ مِنْ غَيْرِ تَقَيُّدٍ بِالرُّسُومِ وَالظَّوَاهِرِ.
هَذَا مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ مَعَ بَسْطٍ وَأيضاحٍ، وَلَكِنَّ ظَوَاهِرَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ تَأْبَاهُ، وَلأهل هَذَا التَّأْوِيلِ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ قَدْ نُقِلَتْ بِالْمَعْنَى كَأَكْثَرِ الْأَحَادِيثِ، وَالنَّاقِلُ لِلْمَعْنَى يَنْقُلُ مَا فَهِمَهُ، وَسُئِلَ عَنِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ وَقَتْلِ عِيسَى لَهُ فَقَالَ: إِنَّ الدَّجَّالَ رَمْزٌ لِلْخُرَافَاتِ وَالدَّجَلِ وَالْقَبَائِحَ الَّتِي تَزُولُ بِتَقْرِيرِ الشَّرِيعَةِ عَلَى وَجْهِهَا وَالْأَخْذِ بِأَسْرَارِهَا وَحِكَمِهَا. وَإِنَّ الْقُرْآنَ أَعْظَمُ هَادٍ إِلَى هَذِهِ الْحِكَمِ وَالْأَسْرَارِ، وَسُنَّةُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مُبَيِّنَةٌ لِذَلِكَ فَلَا حَاجَةَ لِلْبَشَرِ إِلَى إِصْلَاحٍ وَرَاءَ الرُّجُوعِ إِلَى ذَلِكَ، وَسَنَعُودُ إِلَى مَبْحَثِ مَا جَرَى لِلْمَسِيحِ عليه السلام مَعَ الْمَاكِرِينَ الَّذِينَ أَرَادُوا قَتْلَهُ وَصَلْبَهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ إِنْ شَاءَ اللهُ تعالى.
{وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ} بِالْأَخْذِ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْهُدَى {فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} بِكَ وَلَمْ يَهْتَدُوا بِهَدْيِكَ فَوْقِيَّةً رُوحَانِيَّةً دِينِيَّةً وَهِيَ كَوْنُهُمْ أَحْسَنَ أَخْلَاقًا وَأَكْمَلَ آدَابًا وَأَقْرَبَ إِلَى الْحَقِّ وَالْفَضْلِ، وَأَبْعَدَ عَنِ الْبَاطِلِ وَالِاعْتِدَاءِ، أَوْ فَوْقِيَّةً دُنْيَوِيَّةً وَهُوَ كَوْنُهُمْ يَكُونُونَ أَصْحَابَ السِّيَادَةِ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّ هَذَا الْوَجْهَ لَمْ يَتَحَقَّقْ فِي زَمَنِ الْمَسِيحِ لِأَشَدِّ النَّاسِ اتِّبَاعًا لَهُ، بَلْ كَانُوا مَغْلُوبِينَ لِلْيَهُودِ، فَتَعَيَّنَ أن يكون الْوَجْهُ الْأَوَّلُ هُوَ الْمُرَادُ وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ اتِّبَاعَ الْمَسِيحِ هُوَ عَيْنُ الْأَخْذِ بِتِلْكَ الْفَضَائِلِ وَالْمَوَاعِظِ الَّتِي جَاءَ بِهَا وَلَيْسَ عِنْدَنَا شَيْءٌ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي هَذَا. وَلَا يُشْكِلُ عَلَيْهِ قوله: {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} فَإِنَّ فَوْقِيَّةَ الْفَضَائِلِ وَالْآدَابِ هِيَ الَّتِي كَانَتْ وَسَتَبْقَى كَذَلِكَ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} أَقُولُ: فِيهِ الْتِفَاتٌ عَنِ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ، وَبِذَلِكَ يَشْمَلُ الْمَسِيحَ وَالْمُخْتَلِفِينَ مَعَهُ وَيَشْتَمِلُ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ أَتْبَاعِهِ وَالْكَافِرِينَ بِهِ، وَاللهُ هُوَ الَّذِي يُبَيِّنُ لَهُمْ جَمِيعًا يَوْمَ الْحِسَابِ الْحَقَّ فِي كُلِّ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ بِمَا يُزِيلُ شُبَهَ الْمُشْتَبِهِينَ وَرِيَاءَ الْجَاحِدِينَ.
{فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} وَكَذَلِكَ عَذَّبَ اللهُ الْيَهُودَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ بِتَسْلِيطِ الْأُمَمِ عَلَيْهِمْ وَبِحُكْمِهَا فِيهِمْ {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ} [41: 16] هُنَاكَ كَمَا أَنَّهُمْ لَمْ يُنْصَرُوا هُنَا وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ إِمَّا فِي الدَّارَيْنِ وَهُوَ الْغَالِبُ فِي الْأُمَمِ، وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ فَقَطْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِالْخُرُوجِ عَنْ سُنَنِ الْفِطْرَةِ وَالْكُفْرِ بِالْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ يُطَالِبُونَ النُّفُوسَ بِتَقْوِيمِهَا.
{ذَلِكَ } الَّذِي تَقَدَّمَ مِنْ خَبَرِ عِيسَى {نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ } الدَّالَّةِ عَلَى نَبُّوتِكَ {وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ } الَّذِي يُبَيِّنُ وُجُوهَ الْعِبَرِ فِي الأخبار وَالْحِكَمِ فِي الْأَحْكَامِ، فَيَهْدِي الْمُؤْمِنِينَ إِلَى لُبَابِ الدِّينِ وَفِقْهِ الشَّرِيعَةِ وَأَسْرَارِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ لِيَتَّعِظَ الْمُتَّعِظُونَ، وَيَصِلَ إِلَى مَقَامِ الْحِكْمَةِ الْعَارِفُونَ. وَلَيْسَ لَدَيْنَا عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ شَيْءٌ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ.
{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ}.
أَقُولُ: بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ سبحانه خَلْقَ عِيسَى وَمَجِيئَهُ بِالْآيَاتِ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ قَوْمِهِ فِي الإيمان وَالْكُفْرِ بِهِ، كَشَفَ شُبْهَةَ الْمَفْتُونِينَ بِخَلْقِهِ عَلَى غَيْرِ السُّنَّةِ الْمُعْتَادَةِ وَالْمُحَاجِّينَ فِيهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَرَدَّ عَلَى الْمُنْكِرِينَ لِذَلِكَ فَقَالَ: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ} أَيْ إِنَّ شَبَهَ عِيسَى وَصِفَتَهُ فِي خَلْقِ اللهِ إِيَّاهُ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ كَشَأْنِ آدَمَ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ فَسَّرَ هَذَا الْمَثَلَ بِقوله: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} أَيْ قَدَّرَ أَوْضَاعَهُ وَكَوَّنَ جِسْمَهُ مِنْ تُرَابٍ مَيِّتٍ أَصَابَهُ الْمَاءُ فَكَانَ طِينًا لَازِبًا ذَا لُزُوجَةٍ {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } أَيْ ثُمَّ كَوَّنَهُ تَكْوِينًا آخَرَ بِنَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْعِبَارَةِ إِلَّا أنه كَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يَقُولَ هُنَا: (ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَكَانَ). وَلَكِنَّهُ قَالَ: فَيَكُونُ لِتَصْوِيرِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ، كَمَا يَقُولُ أَهْلُ الْمَعَانِي فِي وَضْعِ الْمُضَارِعِ مَوْضِعَ الْمَاضِي أَحْيَانًا. وَخَطَرَ لِيَ الْآنَ أنه يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ التَّكْوِينِ مَجْمُوعَ كُنْ فَيَكُونُ وَالْمَعْنَى: ثُمَّ قَالَ لَهُ كَلِمَةَ التَّكْوِينِ الَّتِي هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ تَوَجُّهِ الْإِرَادَةِ إِلَى الشَّيْءِ وَوُجُودِهِ بِهَا حَالًا، وَيَظْهَرُ هَذَا فِي مِثْلِ قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ} [6: 73] وَلَوْ كَانَ الْقَوْلُ لِلتَّكْلِيفِ لَمْ يَظْهَرْ هَذَا؛ لِأَنَّ قَوْلَ التَّكْلِيفِ مِنْ صِفَةِ الْكَلَامِ، وَقَوْلَ التَّكْوِينِ مِنْ صِفَةِ الْمَشِيئَةِ، وَلَعَلَّ مَنْ تَأَمَّلَهُ حَقَّ التَّأَمُّلِ لَا يَجِدُ عَنْهُ مُنْصَرَفًا. وَالْعَطْفُ بِـ (ثُمَّ) لِبَيَانِ التَّكْوِينِ الْآخَرِ يُفِيدُ تَرَاخِيهِ وَتَأَخُّرَهُ عَنِ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ، وَهَلْ كَانَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ تَقَلَّبَ فِي أَطْوَارٍ مُخْتَلِفَةٍ كَمَا تَتَقَلَّبُ ذُرِّيَّتُهُ؟ اقْرَأْ قوله تعالى: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [71: 14] وَقَوْلَهُ- عَزَّ وَجَلَّ-: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [23: 12- 16] فَالسُّلَالَةُ الْمُسْتَخْرَجَةُ مِنَ الطِّينِ: هِيَ الْمُكَوِّنُ الْأَوَّلُ الَّذِي يُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِلِسَانِ الْعِلْمِ الْآنَ بِالْبُرُوتُوبْلَازْمَا، وَمِنْهَا تَكَوَّنَ أَصْلُنَا فِي ذَلِكَ الطَّوْرِ؛ لِأَنَّهُ تعالى يَقُولُ: أنه خَلَقَهُ مِنْ تِلْكَ السُّلَالَةِ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى طَوْرِ التَّوَلُّدِ بِوَاسِطَةِ النُّطْفَةِ فِي الْقَرَارِ الْمَكِينِ وَهُوَ الرَّحِمُ ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى طَوْرِ تَحَوُّلِ النُّطْفَةِ إِلَى عَلَقَةٍ وَالْعَلَقَةِ إِلَى مُضْغَةٍ وَالْمُضْغَةِ إِلَى هَيْكَلٍ مِنَ الْعِظَامِ يُكْسَى لَحْمًا، وَقَدْ عَدَّ هَذَا طَوْرًا وَاحِدًا، ثُمَّ أَنْشَأَهُ خَلْقًا آخَرَ وَهُوَ الطَّوْرُ الْأَخِيرُ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ لَهُ طَوْرًا آخَرَ فِي الْمَوْتِ وَطَوْرًا آخَرَ فِي الْبَعْثِ وَهُوَ آخِرُ أَطْوَارِهِ، فَكُلُّ طَوْرٍ مِنَ الْأَطْوَارِ الَّتِي قَبْلَ الْمَوْتِ حَادِثٌ، وَحُدُوثُهُ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ لَمْ يَكُنْ مَسْبُوقًا بِنَظِيرٍ وَلَمْ يَكُنْ مُعْتَادًا، وَإِنَّمَا وُجِدَ بِمَشِيئَةِ اللهِ وَتَكْوِينِهِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِقوله: {كُنْ فَيَكُونُ} فَهَلْ يَعِزُّ عَلَى صَاحِبِ هَذِهِ الْمَشِيئَةِ أَنْ يَخْلُقَ عِيسَى مِنْ غَيْرِ أَبٍ؟ كَلَّا، وَلَا يُعْجِزُهُ أَنْ يَبْعَثَ النَّاسَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ فِي نَشْأَةٍ أُخْرَى كَالنَّشْأَةِ الأولى.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ: قُلْنَا إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ سِيقَتْ فِي مَعْرِضِ إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَيَانِ أَنَّ لِلَّهَ تعالى أَنْ يَصْطَفِيَ مِنْ عِبَادِهِ مَنْ يَشَاءُ لِرِسَالَتِهِ، وَأَنَّهُ مُسْتَقِلٌّ فِي أَفْعَالِهِ، فَلَا وَجْهَ لِإِنْكَارِ اصْطِفَائِهِ مُحَمَّدًا، وَقَدِ اصْطَفَى قَبْلَهُ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ، ثُمَّ جَاءَ فِي السِّيَاقِ ذِكْرُ قِصَّةِ عِيسَى وَأُمِّهِ وَمَا جَاءَ بِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ كُفْرِ بَعْضِ قَوْمِهِ بِهِ وَرَمْيِ أُمِّهِ بِالزِّنَا، وَإِيمَانِ بَعْضٍ، وَهُنَاكَ قِسْمٌ ثَالِثٌ لَمْ يَكْفُرْ بِعِيسَى وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ إِيمَانًا صَحِيحًا بَلِ افْتُتِنَ بِهِ افْتِتَانًا لِكَوْنِهِ وُلِدَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ، وَزَعَمُوا أَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ وُلِدَ بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَكَوْنِهِ مِنْ رُوحِ اللهِ أَنَّ اللهَ تعالى حَلَّ فِي أُمِّهِ، وَأَنَّ كَلِمَةَ اللهِ تَجَسَّدَتْ فِيهِ فَصَارَ إِلَهًا وَإِنْسَانًا، فَضَرَبَ لِلْكَافِرِينَ وَلِلْمَفْتُونِينَ مَثَلَ خَلْقِ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلَا شَكَّ أَنَّ خَلْقَ آدَمَ أَعْجَبُ مَنْ خَلْقِ عِيسَى؛ لِأَنَّ هَذَا خُلِقَ مِنْ حَيَوَانٍ مِنْ نَوْعِهِ وَذَاكَ قَدْ خُلِقَ مِنَ التُّرَابِ، وَفِي الْكَلَامِ إِرْشَادُهُ إِلَى أَنَّ أَمْرَ الْخَلِيقَةِ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَكُلُّهُ غَرِيبٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا إِذَا تَفَكَّرْنَا فِي حَقِيقَتِهَا وَعِلَلِهَا، وَلَا شَيْءَ مِنْهُ بِغَرِيبٍ عِنْدَ الْمُوجِدِ الْمُبْدِعِ، أَمَّا الْقَوَانِينُ الْمَعْرُوفَةُ فِي عِلْمِ الْخَلِيقَةِ فَهِيَ قَدِ اسْتُخْرِجَتْ مِمَّا نَعْهَدُهُ وَنُشَاهِدُهُ، وَلَيْسَتْ قَوَانِينَ عَقْلِيَّةً قَامَتِ الْبَرَاهِينُ عَلَى اسْتِحَالَةِ مَا عَدَاهَا، كَيْفَ وَإِنَّنَا نَرَى فِي كُلِّ يَوْمٍ مَا يُخَالِفُهَا كَالْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَهَا أَعْضَاءٌ زَائِدَةٌ وَالَّتِي تُولَدُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا، وَتَرَوْنَ ذِكْرَ ذَلِكَ فِي الْجَرَائِدِ وَيُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِفَلَتَاتِ الطَّبِيعَةِ، وَهُوَ إِنَّمَا خَالَفَ مَا نَعْرِفُ لَا مَا يَعْلَمُ اللهُ تعالى، وَمَا يُدْرِينَا أَنَّ لِكُلِّ هَذِهِ الشَّوَاذِّ وَالْفَلَتَاتِ سُنَنًا مُطَّرِدَةً مُحْكَمَةً لَمْ تَظْهَرْ لَنَا، وَكَذَلِكَ شَأْنُ خَلْقِ عِيسَى، فَكَوْنُهُ عَلَى غَيْرِ الْمَعْهُودِ لَيْسَ مَزِيَّةً تَقْتَضِي تَفْضِيلَهُ عَلَيْهِمْ، فَكَيْفَ تَقْتَضِي أن يكون إِلَهًا؟ وَإِذَا كَانَ عِيسَى قَدْ خُلِقَ مِنْ بَعْضِ جِنْسِهِ فَآدَمُ قَدْ خُلِقَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، فَهُوَ أَوْلَى بِالْمَزِيَّةِ لَوْ كَانَتْ، وَبِالْإِنْكَارِ إِنْ صَحَّ، عَلَى أَنَّ مَا نَعْرِفُ مِنْ أَمْرِ الْخِلْقَةِ لَيْسَ لَنَا مِنْهُ إِلَّا الظَّاهِرُ، نَصِفُهُ وَنَقُولُ بِهِ وَإِنْ لَمْ نَعْقِلْهُ، وَمَاذَا نَعْقِلُ مِنَ الرَّابِطَةِ بَيْنَ الْحِسِّ وَالنُّطْقِ فِي الْإِنْسَانِ مَثَلًا؟ بَلْ مَاذَا نَعْقِلُ مِنْ أَمْرِ حَبَّةِ الْحِنْطَةِ فِي نَبْتِهَا وَاسْتِوَائِهَا عَلَى سُوقِهَا وَتَنَاسُبِ أَوْرَاقِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ؟ ذَلِكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ عِيسَى وَغَيْرَهُ وَبِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ فِي أَمْرِهِ، الْقَائِلِينَ فِيهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَقَدْ جَاءَكَ عِلْمُ الْيَقِينُ.
{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ} لَهُمْ قَوْلًا يُظْهِرُ عِلْمَكَ الْحَقَّ وَارْتِيَابَهُمُ الْبَاطِلَ {تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ} يُقَالُ: ابْتَهَلَ الرَّجُلُ دَعَا وَتَضَرَّعَ، وَالْقَوْمُ تَلَاعَنُوا، وَفُسِّرَ الِابْتِهَالُ هُنَا بِقوله: {فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} وَتُسَمَّى هَذِهِ الْآيَةُ آيَةَ الْمُبَاهَلَةِ، وَقَدْ وَرَدَ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَعَا نَصَارَى نَجْرَانَ لِلْمُبَاهَلَةِ فَأَبَوْا. أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ: أَنَّ الْعَاقِبَ وَالسَّيِّدَ أَتَيَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَرَادَ أَنْ يُلَاعِنَهُمَا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: لَا تُلَاعِنْهُ فَوَاللهِ لَئِنْ كَانَ نَبِيًّا فَلَاعَنَنَا لَا نَفْلَحُ أَبَدًا وَلَا عَقِبُنَا مِنْ بَعْدِنَا. فَقَالَ لَهُ: نُعْطِيكَ مَا سَأَلْتَ، فَابْعَثْ مَعَنَا رَجُلًا أَمِينًا فَقَالَ: قُمْ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ، فَلَمَّا قَامَ قَالَ: «هَذَا أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ».